قبل البدء بالحديث عن اليسار العربي فمن الافضل الاطلالة ولو سريعا على معنى اليسار , اليسار حاف. ما الذي يمكن للمرء ان يفهمه من اليسار و ما هي السياسات والتوقعات المرتبطة باليسار؟
اليسار كسياسة اجتماعية مرتبط تاريخيا بمجمل مشروع الانوار كأحد فروعه. فلا يمكن أصلا الحديث عن السياسة بالمعنى الحديث ضمن منظومة قيم تستند على الحق الالهي أو على النبالة. السياسة الحديثة ,ومن ضمنها مقولات العقلانية والمسؤولية الفردية والمساواة امام القانون, تمثل البنية التحتية للوعي اليساري وقبل ان يحدد لنفسه هوية. هوية اليسار تحدد بالضد| أو بالمقابلة مع الليبرالية كفرعين للمشروع التنويري. اما ما هو خارج المشروع التنويري فستكون مقدمات التنوير هي الحد لكليهما.
طبعا هذا لا يعني ان اليسار لا يملك تاريخا قديما, بالتركيز على قيمة المساواة كهوية محددة لليسار, حيث يمكن الرجوع الى مراحل قديمة في اية بقعة من بقاع الارض والعثور على حركات دينية و مشاعيات وثورات. لكن سيكون هذا الربط المباشر مجافيا للواقع.
ففكرة المساواة قديمة, لكن المسؤولية الفردية وقدرة البشر على التحكم بشؤون حياتهم والتفويض من الشعب والعقلانية هذه كلها لا يمكن ارجاعها للوراء, ولا معنى لليسارـ كسياسة اجتماعيةـ الا بالارتباط معها. فاليسار هو سياسة المساواة, اي سياسة يمارسها بشر يتدخلون بشكل عقلاني في الفعل السياسي ويستندون على تمثيلهم للشعب أو لشرائح منه.
فاليسار, وأي سياسة حديثة, لا يمكن فصلها عن مشروع الانوار. لكن الذي يحدد اليسار بشكل خاص بالمقارنة مع اي تيار ضمن الانوار هو قيمة المساواة. ليس وحسب بمعنى المساواة الشكلية, أي حقوق المواطنة, انما بمعنى المساواة الاجتماعية. النقد اليساري للحقوق البرجوازية هو نقد بسيط: لا يمكن تحقيق المساواة القانونية في وضع تترسخ فيه اللامساواة الاجتماعية. التجربة التاريخية تدعم هذه الفكرة ولحد كبير. فالحقوق السياسية ارتبطت دوما باستثناءات استندت أساسا على الموقع الطبقي. فحد الضريبة حدد حق الترشح والانتخاب ولهذا كان مطلب الاقتراع العام بندا دائما على جدول اليسار. ومع الحصول على الاقتراع العام بقي الجدال , كيف يمكن لأفراد لا يستطيعون الوصول بشكل متكافئ الى مواقع التحكم والمعلومات من ان يكونوا متساوين بشكل حقيقي.
هناك من يتحكمون بوصول المعلومة, والدولة تتحكم بالقرار وادوات القمع وادارة الاقتصاد تبقى بعيدة عن اية ديمقراطية فعلية. واللامساواة الاجتماعية ستعني ان هناك نقصا بالمساواة القانونية.
والامر ابعد من هذا فالفقر ما يزال موجودا (والآن يعود بقوة) اما في الجنوب فالمأساة اكبر بكثير. أكثر من مليار انسان يعيشون في فقر مدقع, ملايين من الاطفال يموتون بسبب الجوع وامراض يمكن تلافيها بسهولة, وملايين أخرى لا يحصلون على مياه الشرب ولا يذهبون الى مدارس. واعداد متزايدة تتكدس في احياء البؤس حول المدن الكبرى.
هذا الفقر ليس نتاجا طبيعيا انما نتاج النظام الاجتماعي, ولهذا يمكن التخلص منه فهو ليس لعنة قدرية, انما نتاج للممارسة الانسانية, بهذا المعنى يمكن الحديث عن اليسار كسياسة اجتماعية فهو ينزع الطبيعية عن البؤس ليجعله شأنا انسانيا وبالتالي يمكن معالجته.
يمكن تعريف اليسار بكونه سياسة المساواة. فما يحدد اليسار ليس مقولاته التفسيرية انما تصوراته عما يجب ان يكون, يوتوبياته الخاصة. من هنا علينا ان نلتفت الى مسألة الديمقراطية والتي تبدو اليوم وكأنها مرتبطة حصريا بالليبرالية, وعلى الاقل هذا تزييف من الناحية التاريخية, فالليبرالية تؤكد على الفرد الحر أمام الدولة وأيضا أمام المجتمع. الليبرالية لهذا تتحدث عن الحقوق الطبيعية للبشر. لكن الديمقراطية تستند على المجال العام والخير العام. وهذه أفكار جمهورية (يسارية). الليبرالية بأبسط اشكالها تعطي فردا وان اجتمع الافراد اصبح لدينا سوق, اما أولوية ما هو عام ( التناقض بين النفع العام والنفع الخاص) والساحة العامة كمكان للتداول والحوار والوصول الى القرارات ( الساحة العامة ليست سوق) ليست من نتاجات المشروع الليبرالي بل الجمهوري (اليساري). مأثرة الليبرالية هي الحق الطبيعي ( وحتى هذا يمكن تطويره ضمن المشروع الجمهوري) (1)
مشكلة اليسار عربيا ليست مرتبطة بمسألة المساواة انما بالسياسة. ما ينقص اليسار العربي ليس احساسه بالمساواة وانما البيئة التي تستند على المقولات الاساسية لمعنى السياسة ولهذا فان التركيز على المساواة وحسب سيعني ان تعبيرات راديكالية ضمن الاسلام السياسي ( كاحمدي نجاد) أو ايديولوجيات أخرى ربما تحيل الى اليسار هي الاخرى. المشكلة أن المقولات الاساسية لمشروع التنوير هي المفتقدة وعلى كلي المستويين, المشروع اليساري والمجتمع.
افتقاد هذه المقولات على مستوى المجتمع ليس أمرا لا يمكن فهمه واليسار كمشروع تغييري يفترض به ان يضعها في حسابه خلال نضاله. لكن ما لا يمكن تبريره هو افتقادها ضمن المشروع اليساري (2)
اليسار يسعى لتحقيق المساواة, أي ان البشر قادرون على تحقيقها, والسعي الى توسيع امكانياتهم واعطاء مجال اكبر لتحقيق ذواتهم وادارة شؤونهم وهذا ما يتطلب زيادة قدرتهم في الوصول الى اجهزة التحكم( الدولة بشكل اساسي).
بمعنى آخر ان اليسار يسعى الى المساواة والحرية والمطلوب هو اعادة تنظيم مقولات اليسار. فاليسار ضمن بيئة حديثة سيكون من السهل عليه أن يتحدث عن المساواة فهناك مبادئ أولية متفق عليها. عندنا المسالة مختلفة ولهذا على اليسار أن يحدد مشروعه بأكمله, أن يقوم بالتبديه, أي شرح البديهيات والمسبقات.
اعادة تنظيم مقولات اليسار تتطلب شرح خطه العام, الاساسي. فما يحدد اليسار ليس رؤيته التفسيرية للمجتمع انما رؤيته لما يجب أن يكون عليه المجتمع, نقديته.
القيمتان الاساسيتان عندها لأي مشروع يساري هما المساواة والحرية, أي نظرية العدالة. نحن العرب نفتقد المساواة ونفتقد الحرية ونريدهما كلتاهما. اليسار عندها هو كفاح ضد البؤس وايضا ضد القمع.
التأكيد على احدى القيمتين والغاء الاخرى لا يعني عندنا الا التضحية بالاخرى. المساواة على اساس البنى البطريركية والاستبدادية تعني انتاج عدم المساواة في القريب الآجل. والحرية بدون المساواة (في سياق مفرط في اللامساواة) تعني انتاج الاستبداد في اول فرصة, وعادة ما تكون قريبة جدا.
اليسار بهذا المعنى سيكون اوسع من الشيوعيين أو الطلاب والعمال او أي شيء آخر, وهذا له فائدته عند الاقتراب الفعلي من المضمون الواقعي للمساواة والحرية المرجوتين.
المساواة تعني الصراع ضد البؤس والفقر, لكن ايضا صراعا ضد اللامساواة الناتجة عن التمييز على اساس الجنوسة أو العمر أو الدين.
لا يمكن اختصار اللامساواة بشكل محدد ( الشائع عندنا ـ اي اليسار- هو عدم المساواة التي تعانيها الطبقة العاملة) فأحزمة البؤس أصبحت ظاهرة متفشية, حيث نسب البطالة اعلى من اي مكان آخر وتمتاز بغياب الخدمات الاساسية فيها. الفقر الريفي مسألة ملحة ويتطور باتجاه الأسوأ وخاصة مع التقدم باتجاه الانفتاح والاندماج المتزايد في الاقتصاد العالمي مما سيعني رمي هؤلاء في السوق العالمية دون اية قدرة على المواجهة. النساء يعانين من وضع مزري (لا يمكن مقارنته حتى بالدول العالمثالثية) من انتهاك لحقوقهن وانتشار للأمية في وسطهن, ومعاناة الشباب ( وهم الشريحة العمرية الاكبر) في مواجهة بنى بطريركية تستبعد عنهم المساواة سلفا.
وكذلك الحال مع الحرية. فهي الاخرى غائبة عن المجتمعات العربية. فلا انتخابات حقيقية ولا حق بتشكيل الأحزاب أو النقابات المستقلة, ولا صحافة حرة. اي غياب كامل للحقوق الاساسية للأفراد.
النقاط الهامة التي يستطيع المرء أن يلاحظها هي اندغام المسألتين, الحرية والمساواة, معا.
فغياب المساواة للعمال والفلاحين يقابله غياب حقهم بتشكيل النقابات والجمعيات للدفاع عن أنفسهم, وغياب الأحزاب والصحافة يقابله الشقاء في أحزمة البؤس. السلطة البطريركية للمجتمع تستبعد المساواة والحرية عن النساء والشباب. اللامساواة على أسس طائفية ترتبط مع الغاء الحرية والسيادة المطلقة للسلطة الدينية في كل طائفة.
على اليسار أن يوضح مشروعه في القضيتين وعلى جميع المستويات وان لا يقتصر على شريحة محددة أو مسألة معينة. فاليسار لا يستطيع ان يكون يسارا في مكان وتقليديا في مكان آخر. الكفاح ضد البؤس يعني كفاح ضد كل اشكاله وهذا ما سيعطي اليسار قدرة اكبر على التحرك, حيث سيعفيه من الارتباط ببرامج فرعية ( على اهميتها الكبرى). فاليسار يستطيع أن يرتبط بالحركات الجديدة والتي تدافع عن قضايا محددة وان يسعى الى ادماجها ضمن تيار واسع عبر تأكيده الدائم على قيمتي الحرية والمساواة.
فالذي يميز الحركات اليوم هو ارتباطها بأشكال اخرى للبؤس والمقاومة مثل حركات السلام والبيئة والسكان الاصليين والنساء. أشكال من البؤس والتي لا يمكن للمرء أن يشتقها بشكل مباشر من الصراع الطبقي, لكنها ايضا تشكل جزءا بنيويا من النظام العالمي.
من هذه النقطة علينا أن نؤكد أن على اليسار العربي أن يبدأ انفتاحه على هذه الاشكال الجديدة من المقاومة والرفض, على أشكال جديدة للمواجهة يبديها الذين يعانون بانفسهم. وهنا أيضا تتجلى المشكلة التي يعانيها اليسار العربي فهو في استمراره ضمن التقاليد التي ورثها أكد دوما على المساواة وغيب بشكل أو بآخر القيم الاخرى. وضمن سياق تأكيده على المساواة اختزلها الى سلطة الطبقة العاملة (وكانت في وقتها اقلية ضئيلة لا تعطي حتى مجرد صورة واقعية للبؤس) وهذه ضمن معاداة الامبريالية, والاخيرة ضرورية ولكنها كارثية عندما تختزل كامل قيم اليسار. وهكذا نرى اليوم يساريين يقفون مع الاستبداد أو الارهاب أو السيد القرضاوي لمجرد معاداة الامبريالية. وعلى الجانب الاخر نرى يساريين سابقين ادمنوا معاداة الامبريالية, ليكتشفوا اليوم الحرية, لوحدها. وهم اليوم مع الولايات المتحدة حتى في سجونها وجرائمها, مع فساد فتح ضد حماس, مع علمانوية تعليم زين العابدين وايضا قمعه وافقاره للمجتمع التونسي. وعلميا ينتهون الى التضحية بالحرية نفسها, ونحن سنعفي انفسنا من الحديث عنهم بعد أن اصبحوا اليوم ليبراليين لا أكثر.
على اليسار العربي أن يتوقف عن اعطاء مواقفه الحاسمة هذه مع/أو ضد وأن يلتفت لواقع البؤس والتمرد ضده بشكل أكثر عملية
فالذين يقطنون أحياء الفقر لا يمكن لهم الاستمرار هكذا دونما رفض أو مقاومة, وتطوير لثقافة خاصة بهم لمواجهة هذا الواقع. وعلى اليسار أن يكتشفها و يستوعبها. الحركات الاسلامية الراديكالية تجد هنا بيئة نشطة, فخريجو المدارس المهنية والجامعات الذين لا يجدون عملا هم منابع لا تنتهي للحركة الاسلامية. وخاصة أن الحركات الاسلامية تتحدث عن مساواة أسنان المشط وخراج من الاغنياء وجهاد ضد الكفار والمفسدين في الارض ( الحاكمون=المفسدون).
ضمن هذا السياق لا يمكن وصم الحركة الاسلامية بكونها تعبر عن الرجعية والظلامية وانتهى. بل ان قاعدة الحركة الاسلامية هم أنفسهم الذين يفترض بهم أن يكونوا قاعدة اليسار.
ليس واقعيا أن لا يرى اليسار في الحركة الاسلامية سوى الرجعية, فالصورة أكثر تعقيدا,فلا شيء يجمع القادم من الأحياء العشوائية مع القرضاوي. الاسلام السياسي لن يكون حلا لهؤلاء وممارساته مرفوضة لكن بالمقابل على اليسار اكتشاف هؤلاء البشر كضحايا لظلم ورد فعلهم على الظلم لا يجعلهم بحال من الاحوال ظالمين.
الفصل بين قاعدة وقيادة الحركة الاسلامية, اعادة اكتشاف البشر الفعليين وليس الصور المنمطة للقتلة والمجرمين هما واجبان على اليسار.
هناك أيضا انماط أخرى للمقاومة تتجاوز الحركة الاسلامية , واحيانا تتشكل ثقافات خاصة للاستمرار وعلى اليسار اكتشافها واستيعابها وأن يدمجها ( الجيد منها) في اطار رؤيته وان يعطيها فرصة لتعبر عن ذاتها. المبدا الاساسي لليسار هو: أن التحرر من البؤس سيكون من البؤساء أنفسهم.(تماما مثلما اكد ماركس أن تحرر العمال من صنعهم).
فاحترامنا لخبرة هذه الاجيال في الممانعة والاستمرار هي المعيار الاول لالتزامنا بالحرية.
هناك نقطة أخرى هامة وهي البنى التقليدية ( العشيرة - الطائفة...) والتي تعود لتأخذ مواقع مهمة في البيئة الاجتماعية وهي لاتنقص من سلطة الدولة أو تتناقض معها انما تدعمها, ولكنها بالمقابل تقوم بدور هام وهو حماية اعضائها من البطالة أو المرض أو الظلم... ,لكنها بالمقابل تسلبهم حريتهم وامكانية تطوير اشكال للاجتماع والدفاع عن حقوقهم. القبطي المصري يرى اليوم في الكنيسة حمايته, لكنه لم يعد يرى في نفسه الا كونه قبطيا. فالكنيسة انتزعت منه حق الحرية مقابل الحماية. اليسار عليه أن يوضح هذه المسألة. الحماية لا تأتي الا عبر المواطنة والحرية. عليه أن يرفض الوصاية لكن مع ابداع سياسات حقيقية للحماية وأن يوضح بدأب واستمرار أن هذه الحماية المفترضة ليست الا تزييفا وشرعنة للانتهاك. وهي لاتستعيد الا النزر اليسير من الحقوق المسلوبة. فالنظام المصري الذي يسمح بانتهاك حقوق جزء من الشعب المصري بسبب عقيدته هو نفسه النظام الذي تعطيه الكنيسة كل الدعم في كل أزمة يواجهها.
لنقول في النهاية أن ما يحدد اليسار هو القيم التي يدعو اليها وهي بحاجة اليوم لاعادة بناء وتوضيح. وقيمتا اليسار الاساسيتان هما المساواة والحرية ولا يمكن التفريط بأية واحدة منهما, وان أي كفاح في سبيل احداهما هو في الوقت ذاته كفاح في سبيل الاخرى.
المضمون الواقعي للمساواة والحرية يحددهما الواقع الفعلي للبؤس والاستبداد وليس مقدمات فارغة عن الرجعية الاسلامية واستبداد الانظمة. وفي النهاية تحرر البشر سيكون من صنعهم ولهذا فان جميع اشكال المقاومة والتحرر من قبلهم يجب أن تجد متنفسا للحوار والتعبير ضمن هذا اليسار.
فهناك امكانية حقيقية لعالم مختلف لا تكون المساواة فيه هي مساواة مع استبداد, والحرية حرية بلا سلطة.
1- من الصعب جمع ليبرالية القرن العشرين,وحتى الاقدم, في سلة واحدة فهناك لبيرالية لا تبالي صراحة بالديمقراطية كليبرالية ملتون فريدمان وهناك الليبرالية التي ارتبطت بالحرب الباردة وقضاياها وتحديدا نقد الشمولية كليبرالية حنة أرندت و ريمون آرون وهناك الليبرالية اليسارية والتي تهمنا اكثر من غيرها حيث سعت الى تطوير نظرية في العدالة كما في أعمال جون رولز. اما فيما يخص محاولات بناء الفكري للديمقراطية من خارج السياق الليبرالي مع المحافظة على مفهوم حرية الفرد وحقوقه ستكون أعمال روسو وهيغل اساسا لهكذا تصورات
2-سيكون من التجني أن نقول باطلاق أن المشروع اليساري لم يبالي بهذه الامور وحسبنا ان نتذكر اعمال الياس مرقص وياسين الحافظ, وحتى الاعمال الشائعة عن الثورة الديمقراطية. لكن ضمن الخط العام للمشروع اليساري لم تنل هذه المسائل اهمية فعلية وهكذا يفهم المرء تماما نقد الحافظ وحديثه عن تأخراكيات عوضا عن اشتراكيات
اليسار كسياسة اجتماعية مرتبط تاريخيا بمجمل مشروع الانوار كأحد فروعه. فلا يمكن أصلا الحديث عن السياسة بالمعنى الحديث ضمن منظومة قيم تستند على الحق الالهي أو على النبالة. السياسة الحديثة ,ومن ضمنها مقولات العقلانية والمسؤولية الفردية والمساواة امام القانون, تمثل البنية التحتية للوعي اليساري وقبل ان يحدد لنفسه هوية. هوية اليسار تحدد بالضد| أو بالمقابلة مع الليبرالية كفرعين للمشروع التنويري. اما ما هو خارج المشروع التنويري فستكون مقدمات التنوير هي الحد لكليهما.
طبعا هذا لا يعني ان اليسار لا يملك تاريخا قديما, بالتركيز على قيمة المساواة كهوية محددة لليسار, حيث يمكن الرجوع الى مراحل قديمة في اية بقعة من بقاع الارض والعثور على حركات دينية و مشاعيات وثورات. لكن سيكون هذا الربط المباشر مجافيا للواقع.
ففكرة المساواة قديمة, لكن المسؤولية الفردية وقدرة البشر على التحكم بشؤون حياتهم والتفويض من الشعب والعقلانية هذه كلها لا يمكن ارجاعها للوراء, ولا معنى لليسارـ كسياسة اجتماعيةـ الا بالارتباط معها. فاليسار هو سياسة المساواة, اي سياسة يمارسها بشر يتدخلون بشكل عقلاني في الفعل السياسي ويستندون على تمثيلهم للشعب أو لشرائح منه.
فاليسار, وأي سياسة حديثة, لا يمكن فصلها عن مشروع الانوار. لكن الذي يحدد اليسار بشكل خاص بالمقارنة مع اي تيار ضمن الانوار هو قيمة المساواة. ليس وحسب بمعنى المساواة الشكلية, أي حقوق المواطنة, انما بمعنى المساواة الاجتماعية. النقد اليساري للحقوق البرجوازية هو نقد بسيط: لا يمكن تحقيق المساواة القانونية في وضع تترسخ فيه اللامساواة الاجتماعية. التجربة التاريخية تدعم هذه الفكرة ولحد كبير. فالحقوق السياسية ارتبطت دوما باستثناءات استندت أساسا على الموقع الطبقي. فحد الضريبة حدد حق الترشح والانتخاب ولهذا كان مطلب الاقتراع العام بندا دائما على جدول اليسار. ومع الحصول على الاقتراع العام بقي الجدال , كيف يمكن لأفراد لا يستطيعون الوصول بشكل متكافئ الى مواقع التحكم والمعلومات من ان يكونوا متساوين بشكل حقيقي.
هناك من يتحكمون بوصول المعلومة, والدولة تتحكم بالقرار وادوات القمع وادارة الاقتصاد تبقى بعيدة عن اية ديمقراطية فعلية. واللامساواة الاجتماعية ستعني ان هناك نقصا بالمساواة القانونية.
والامر ابعد من هذا فالفقر ما يزال موجودا (والآن يعود بقوة) اما في الجنوب فالمأساة اكبر بكثير. أكثر من مليار انسان يعيشون في فقر مدقع, ملايين من الاطفال يموتون بسبب الجوع وامراض يمكن تلافيها بسهولة, وملايين أخرى لا يحصلون على مياه الشرب ولا يذهبون الى مدارس. واعداد متزايدة تتكدس في احياء البؤس حول المدن الكبرى.
هذا الفقر ليس نتاجا طبيعيا انما نتاج النظام الاجتماعي, ولهذا يمكن التخلص منه فهو ليس لعنة قدرية, انما نتاج للممارسة الانسانية, بهذا المعنى يمكن الحديث عن اليسار كسياسة اجتماعية فهو ينزع الطبيعية عن البؤس ليجعله شأنا انسانيا وبالتالي يمكن معالجته.
يمكن تعريف اليسار بكونه سياسة المساواة. فما يحدد اليسار ليس مقولاته التفسيرية انما تصوراته عما يجب ان يكون, يوتوبياته الخاصة. من هنا علينا ان نلتفت الى مسألة الديمقراطية والتي تبدو اليوم وكأنها مرتبطة حصريا بالليبرالية, وعلى الاقل هذا تزييف من الناحية التاريخية, فالليبرالية تؤكد على الفرد الحر أمام الدولة وأيضا أمام المجتمع. الليبرالية لهذا تتحدث عن الحقوق الطبيعية للبشر. لكن الديمقراطية تستند على المجال العام والخير العام. وهذه أفكار جمهورية (يسارية). الليبرالية بأبسط اشكالها تعطي فردا وان اجتمع الافراد اصبح لدينا سوق, اما أولوية ما هو عام ( التناقض بين النفع العام والنفع الخاص) والساحة العامة كمكان للتداول والحوار والوصول الى القرارات ( الساحة العامة ليست سوق) ليست من نتاجات المشروع الليبرالي بل الجمهوري (اليساري). مأثرة الليبرالية هي الحق الطبيعي ( وحتى هذا يمكن تطويره ضمن المشروع الجمهوري) (1)
مشكلة اليسار عربيا ليست مرتبطة بمسألة المساواة انما بالسياسة. ما ينقص اليسار العربي ليس احساسه بالمساواة وانما البيئة التي تستند على المقولات الاساسية لمعنى السياسة ولهذا فان التركيز على المساواة وحسب سيعني ان تعبيرات راديكالية ضمن الاسلام السياسي ( كاحمدي نجاد) أو ايديولوجيات أخرى ربما تحيل الى اليسار هي الاخرى. المشكلة أن المقولات الاساسية لمشروع التنوير هي المفتقدة وعلى كلي المستويين, المشروع اليساري والمجتمع.
افتقاد هذه المقولات على مستوى المجتمع ليس أمرا لا يمكن فهمه واليسار كمشروع تغييري يفترض به ان يضعها في حسابه خلال نضاله. لكن ما لا يمكن تبريره هو افتقادها ضمن المشروع اليساري (2)
اليسار يسعى لتحقيق المساواة, أي ان البشر قادرون على تحقيقها, والسعي الى توسيع امكانياتهم واعطاء مجال اكبر لتحقيق ذواتهم وادارة شؤونهم وهذا ما يتطلب زيادة قدرتهم في الوصول الى اجهزة التحكم( الدولة بشكل اساسي).
بمعنى آخر ان اليسار يسعى الى المساواة والحرية والمطلوب هو اعادة تنظيم مقولات اليسار. فاليسار ضمن بيئة حديثة سيكون من السهل عليه أن يتحدث عن المساواة فهناك مبادئ أولية متفق عليها. عندنا المسالة مختلفة ولهذا على اليسار أن يحدد مشروعه بأكمله, أن يقوم بالتبديه, أي شرح البديهيات والمسبقات.
اعادة تنظيم مقولات اليسار تتطلب شرح خطه العام, الاساسي. فما يحدد اليسار ليس رؤيته التفسيرية للمجتمع انما رؤيته لما يجب أن يكون عليه المجتمع, نقديته.
القيمتان الاساسيتان عندها لأي مشروع يساري هما المساواة والحرية, أي نظرية العدالة. نحن العرب نفتقد المساواة ونفتقد الحرية ونريدهما كلتاهما. اليسار عندها هو كفاح ضد البؤس وايضا ضد القمع.
التأكيد على احدى القيمتين والغاء الاخرى لا يعني عندنا الا التضحية بالاخرى. المساواة على اساس البنى البطريركية والاستبدادية تعني انتاج عدم المساواة في القريب الآجل. والحرية بدون المساواة (في سياق مفرط في اللامساواة) تعني انتاج الاستبداد في اول فرصة, وعادة ما تكون قريبة جدا.
اليسار بهذا المعنى سيكون اوسع من الشيوعيين أو الطلاب والعمال او أي شيء آخر, وهذا له فائدته عند الاقتراب الفعلي من المضمون الواقعي للمساواة والحرية المرجوتين.
المساواة تعني الصراع ضد البؤس والفقر, لكن ايضا صراعا ضد اللامساواة الناتجة عن التمييز على اساس الجنوسة أو العمر أو الدين.
لا يمكن اختصار اللامساواة بشكل محدد ( الشائع عندنا ـ اي اليسار- هو عدم المساواة التي تعانيها الطبقة العاملة) فأحزمة البؤس أصبحت ظاهرة متفشية, حيث نسب البطالة اعلى من اي مكان آخر وتمتاز بغياب الخدمات الاساسية فيها. الفقر الريفي مسألة ملحة ويتطور باتجاه الأسوأ وخاصة مع التقدم باتجاه الانفتاح والاندماج المتزايد في الاقتصاد العالمي مما سيعني رمي هؤلاء في السوق العالمية دون اية قدرة على المواجهة. النساء يعانين من وضع مزري (لا يمكن مقارنته حتى بالدول العالمثالثية) من انتهاك لحقوقهن وانتشار للأمية في وسطهن, ومعاناة الشباب ( وهم الشريحة العمرية الاكبر) في مواجهة بنى بطريركية تستبعد عنهم المساواة سلفا.
وكذلك الحال مع الحرية. فهي الاخرى غائبة عن المجتمعات العربية. فلا انتخابات حقيقية ولا حق بتشكيل الأحزاب أو النقابات المستقلة, ولا صحافة حرة. اي غياب كامل للحقوق الاساسية للأفراد.
النقاط الهامة التي يستطيع المرء أن يلاحظها هي اندغام المسألتين, الحرية والمساواة, معا.
فغياب المساواة للعمال والفلاحين يقابله غياب حقهم بتشكيل النقابات والجمعيات للدفاع عن أنفسهم, وغياب الأحزاب والصحافة يقابله الشقاء في أحزمة البؤس. السلطة البطريركية للمجتمع تستبعد المساواة والحرية عن النساء والشباب. اللامساواة على أسس طائفية ترتبط مع الغاء الحرية والسيادة المطلقة للسلطة الدينية في كل طائفة.
على اليسار أن يوضح مشروعه في القضيتين وعلى جميع المستويات وان لا يقتصر على شريحة محددة أو مسألة معينة. فاليسار لا يستطيع ان يكون يسارا في مكان وتقليديا في مكان آخر. الكفاح ضد البؤس يعني كفاح ضد كل اشكاله وهذا ما سيعطي اليسار قدرة اكبر على التحرك, حيث سيعفيه من الارتباط ببرامج فرعية ( على اهميتها الكبرى). فاليسار يستطيع أن يرتبط بالحركات الجديدة والتي تدافع عن قضايا محددة وان يسعى الى ادماجها ضمن تيار واسع عبر تأكيده الدائم على قيمتي الحرية والمساواة.
فالذي يميز الحركات اليوم هو ارتباطها بأشكال اخرى للبؤس والمقاومة مثل حركات السلام والبيئة والسكان الاصليين والنساء. أشكال من البؤس والتي لا يمكن للمرء أن يشتقها بشكل مباشر من الصراع الطبقي, لكنها ايضا تشكل جزءا بنيويا من النظام العالمي.
من هذه النقطة علينا أن نؤكد أن على اليسار العربي أن يبدأ انفتاحه على هذه الاشكال الجديدة من المقاومة والرفض, على أشكال جديدة للمواجهة يبديها الذين يعانون بانفسهم. وهنا أيضا تتجلى المشكلة التي يعانيها اليسار العربي فهو في استمراره ضمن التقاليد التي ورثها أكد دوما على المساواة وغيب بشكل أو بآخر القيم الاخرى. وضمن سياق تأكيده على المساواة اختزلها الى سلطة الطبقة العاملة (وكانت في وقتها اقلية ضئيلة لا تعطي حتى مجرد صورة واقعية للبؤس) وهذه ضمن معاداة الامبريالية, والاخيرة ضرورية ولكنها كارثية عندما تختزل كامل قيم اليسار. وهكذا نرى اليوم يساريين يقفون مع الاستبداد أو الارهاب أو السيد القرضاوي لمجرد معاداة الامبريالية. وعلى الجانب الاخر نرى يساريين سابقين ادمنوا معاداة الامبريالية, ليكتشفوا اليوم الحرية, لوحدها. وهم اليوم مع الولايات المتحدة حتى في سجونها وجرائمها, مع فساد فتح ضد حماس, مع علمانوية تعليم زين العابدين وايضا قمعه وافقاره للمجتمع التونسي. وعلميا ينتهون الى التضحية بالحرية نفسها, ونحن سنعفي انفسنا من الحديث عنهم بعد أن اصبحوا اليوم ليبراليين لا أكثر.
على اليسار العربي أن يتوقف عن اعطاء مواقفه الحاسمة هذه مع/أو ضد وأن يلتفت لواقع البؤس والتمرد ضده بشكل أكثر عملية
فالذين يقطنون أحياء الفقر لا يمكن لهم الاستمرار هكذا دونما رفض أو مقاومة, وتطوير لثقافة خاصة بهم لمواجهة هذا الواقع. وعلى اليسار أن يكتشفها و يستوعبها. الحركات الاسلامية الراديكالية تجد هنا بيئة نشطة, فخريجو المدارس المهنية والجامعات الذين لا يجدون عملا هم منابع لا تنتهي للحركة الاسلامية. وخاصة أن الحركات الاسلامية تتحدث عن مساواة أسنان المشط وخراج من الاغنياء وجهاد ضد الكفار والمفسدين في الارض ( الحاكمون=المفسدون).
ضمن هذا السياق لا يمكن وصم الحركة الاسلامية بكونها تعبر عن الرجعية والظلامية وانتهى. بل ان قاعدة الحركة الاسلامية هم أنفسهم الذين يفترض بهم أن يكونوا قاعدة اليسار.
ليس واقعيا أن لا يرى اليسار في الحركة الاسلامية سوى الرجعية, فالصورة أكثر تعقيدا,فلا شيء يجمع القادم من الأحياء العشوائية مع القرضاوي. الاسلام السياسي لن يكون حلا لهؤلاء وممارساته مرفوضة لكن بالمقابل على اليسار اكتشاف هؤلاء البشر كضحايا لظلم ورد فعلهم على الظلم لا يجعلهم بحال من الاحوال ظالمين.
الفصل بين قاعدة وقيادة الحركة الاسلامية, اعادة اكتشاف البشر الفعليين وليس الصور المنمطة للقتلة والمجرمين هما واجبان على اليسار.
هناك أيضا انماط أخرى للمقاومة تتجاوز الحركة الاسلامية , واحيانا تتشكل ثقافات خاصة للاستمرار وعلى اليسار اكتشافها واستيعابها وأن يدمجها ( الجيد منها) في اطار رؤيته وان يعطيها فرصة لتعبر عن ذاتها. المبدا الاساسي لليسار هو: أن التحرر من البؤس سيكون من البؤساء أنفسهم.(تماما مثلما اكد ماركس أن تحرر العمال من صنعهم).
فاحترامنا لخبرة هذه الاجيال في الممانعة والاستمرار هي المعيار الاول لالتزامنا بالحرية.
هناك نقطة أخرى هامة وهي البنى التقليدية ( العشيرة - الطائفة...) والتي تعود لتأخذ مواقع مهمة في البيئة الاجتماعية وهي لاتنقص من سلطة الدولة أو تتناقض معها انما تدعمها, ولكنها بالمقابل تقوم بدور هام وهو حماية اعضائها من البطالة أو المرض أو الظلم... ,لكنها بالمقابل تسلبهم حريتهم وامكانية تطوير اشكال للاجتماع والدفاع عن حقوقهم. القبطي المصري يرى اليوم في الكنيسة حمايته, لكنه لم يعد يرى في نفسه الا كونه قبطيا. فالكنيسة انتزعت منه حق الحرية مقابل الحماية. اليسار عليه أن يوضح هذه المسألة. الحماية لا تأتي الا عبر المواطنة والحرية. عليه أن يرفض الوصاية لكن مع ابداع سياسات حقيقية للحماية وأن يوضح بدأب واستمرار أن هذه الحماية المفترضة ليست الا تزييفا وشرعنة للانتهاك. وهي لاتستعيد الا النزر اليسير من الحقوق المسلوبة. فالنظام المصري الذي يسمح بانتهاك حقوق جزء من الشعب المصري بسبب عقيدته هو نفسه النظام الذي تعطيه الكنيسة كل الدعم في كل أزمة يواجهها.
لنقول في النهاية أن ما يحدد اليسار هو القيم التي يدعو اليها وهي بحاجة اليوم لاعادة بناء وتوضيح. وقيمتا اليسار الاساسيتان هما المساواة والحرية ولا يمكن التفريط بأية واحدة منهما, وان أي كفاح في سبيل احداهما هو في الوقت ذاته كفاح في سبيل الاخرى.
المضمون الواقعي للمساواة والحرية يحددهما الواقع الفعلي للبؤس والاستبداد وليس مقدمات فارغة عن الرجعية الاسلامية واستبداد الانظمة. وفي النهاية تحرر البشر سيكون من صنعهم ولهذا فان جميع اشكال المقاومة والتحرر من قبلهم يجب أن تجد متنفسا للحوار والتعبير ضمن هذا اليسار.
فهناك امكانية حقيقية لعالم مختلف لا تكون المساواة فيه هي مساواة مع استبداد, والحرية حرية بلا سلطة.
1- من الصعب جمع ليبرالية القرن العشرين,وحتى الاقدم, في سلة واحدة فهناك لبيرالية لا تبالي صراحة بالديمقراطية كليبرالية ملتون فريدمان وهناك الليبرالية التي ارتبطت بالحرب الباردة وقضاياها وتحديدا نقد الشمولية كليبرالية حنة أرندت و ريمون آرون وهناك الليبرالية اليسارية والتي تهمنا اكثر من غيرها حيث سعت الى تطوير نظرية في العدالة كما في أعمال جون رولز. اما فيما يخص محاولات بناء الفكري للديمقراطية من خارج السياق الليبرالي مع المحافظة على مفهوم حرية الفرد وحقوقه ستكون أعمال روسو وهيغل اساسا لهكذا تصورات
2-سيكون من التجني أن نقول باطلاق أن المشروع اليساري لم يبالي بهذه الامور وحسبنا ان نتذكر اعمال الياس مرقص وياسين الحافظ, وحتى الاعمال الشائعة عن الثورة الديمقراطية. لكن ضمن الخط العام للمشروع اليساري لم تنل هذه المسائل اهمية فعلية وهكذا يفهم المرء تماما نقد الحافظ وحديثه عن تأخراكيات عوضا عن اشتراكيات
0 commentaires:
إرسال تعليق