كتب الأستاذ محمد الساسي مقالة سياسية عرض فيها حلا من الحلول الممكنة كمخرج للوضع المتأزم الذي يواجهه مطلب التحول إلى الديمقراطية بالمغرب . وأود منذ البداية أن أسأل الأستاذ عن دواعي هذا التحول الذي لحق بتصوراته السياسية في هذا الوقت المتأخر ، هل هو عائد الى مراجعة فكرية أم إلى عادته في الركض وراء حل ما للهروب من اللاحل كما حدث معه لما انفجرت حركة العشرين من فبراير ؟؟ معروف عن الأستاذ الساسي عداءه الكبير للتيارات الأصولية ، عداءٌ وليس خصومة سياسية أومذهبية . لكن بين عشية وضحاها خرج علينا بمقالة ينادي فيها بإمكانية التواصل والحوار بين الخطاب اليساري والعلماني من جانب والخطاب الأصولي من جانب آخر ، فما الذي وقع حتى توصل الرجل إلى هذا الإكتشاف ؟؟ . إن حزبي الأمة والبديل الحضاري لم يعودا يمثلان شيئا ذا قيمة في عيني الأستاذ الساسي ، سقف طموحه ارتقى ليغازل جماعة العدل والإحسان ذات النفوذ الواسع والتأثير القوي في المجتمع المغربي . فهل الإشارة التي التقطها الأستاذ الساسي والتي كونت طموحه هذا انطلقت مما يجري داخل الجماعة أم من أروقة الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أم من العاصمة التونسية عقب الإنجاز الدستوري ؟؟ . يقول الأستاذ " الانتقال الديمقراطي يتطلب ، على صعيد العلاقة بين القوى السياسية ، في نظرنا ، حصول توافق بين معسكري الإسلاميين والعلمانيين على مجموعة من المبادئ والقواعد المؤسسة والتي يقع في صدارتها كل من الدولة المدنية والحريات الفردية والملكية البرلمانية ." هذا كلام جميل ، كلام لاينطق به سوى العقلاء والحكماء ، وقد كان يكون أكثر جمالا لو أثير مبكرا ، ولو كان نتاجا لتفكير عقلاني في الخصوصية المغربية وليس نتيجة الهرولة وراء الأحداث . ومع ذلك ، ومهما كانت الأحوال ، أرى أنه يجب الإلتفاف حول هذه الدعوة من طرف أوسع فئة من اليسار المغربي ، لأنه يجب البدء في تكسير الجليد السميك القائم بين العلمانيين والإسلاميين ، بين اليساريين والأصوليين ، هذه المهمة لم تعد تحتمل المزيد من التأجيل . لا ينبغي التعامل مع هذه الدعوة ، إذا أريد لها أن تؤدي أدوارها كاملة ، من حيث كونها مناسبة عابرة ، بل من حيث كونها ضرورة تاريخية . مطروح على المغاربة إثارة جميع القضايا السياسية والفكرية التي تهم مستقبل المغرب ، ومطلوب من المعسكرين تدشين حوار جريئ وناضج فيما بينهما يقطع مع عقلية التجمد العقائدي ويتجاوز عقودا من العداء والانغلاق لأن المستفيذ الوحيد من هذا الوضع هي "الأصولية والعلمانية" المخزنيتين التي يعبر عنها الآن سياسيا حزب الأصالة والمعاصرة . حصول هذا التقارب قد يؤدي إلى ارتجاجات أقوى عشرات المرات مما أحدثته حركة العشرين من فبراير ، وهذا التقارب هو أشد ما يخشاه نظام الحكم بالمغرب . في واقع الأمر ، المغرب ليس مقبلا لا على انتقال ديمقراطي ولا على مشروع ديمقراطي . فلفظة "انتقال" تفيد أن المسألة مجرد تغيير تقني في هياكل الدولة ، ولفظة "مشروع" تعني أن جميع المكونات السياسية في المغرب مجمعة ومقتنعة بهذا المشروع ، في حين أن الحقيقة على النقيض من ذلك تماما ، فالسلطة المخزنية والقوى السياسية والدينية الدائرة في فلكها خارجة عن هذا المشروع وتحاربه بكل الوسائل والأسلحة . إن المغرب مقبل على معركة التحول إلى الديمقراطية ، معركة مع نظام سياسي يرفض حتى الإعتراف بحق المغاربة في المواطنة ما بالك في أن يكون طرفا أو مشاركا في هذه العملية السياسية . إنها معركة لأن دخول نادي الديمقراطيات يقتضي إنجاز تحولات عميقة في كل مناحي الحياة وفي كل تفاصيل الإجتماع البشري داخل المجتمع وفي مقدمتها التحولات الفكرية ، إنها معركة لأن التحول إلى الديمقراطية مرهون بوجود جبهة عريضة من المناهضين لسلطة الحكم الإنفرادي تفوق قوتها قوة المستفيدين من استمرار وتأبيد دولة الريع وانعدام المراقبة والمحاسبة . ولكي تكون الدعوة التي أطلقها الأستاذ الساسي ذات فعالية ومؤثرة كان عليه تجنب الإعلان عن المبادئ والقواعد المؤسسة إلى مراحل لاحقة والدعوة إلى البدء فورا في فتح جسور الإتصال والحوار أولا . فإذا كان الغرض فعلا هو تأسيس توافق بين المعسكرين ، وإذا كان هذا التوافق يشكل جوابا سليما على الأزمة التي يوجد فيها المشهد السياسي المغربي ، يتوجب قبل كل شيء العمل على تليين الأجواء النفسية وبناء عناصر الثقة بين الطرفين وبعد ذلك يتم المرور إلى وضع لبنات الفعل المشترك . فالأستاذ الساسي نصب نفسه في موقع المتفوق وينادي الآخرين إلى اللحاق به ، وهذا أمر غير متوفر ، بل المتوفر هو العكس تماما . والحديث عن الدولة "المدنية" بالمناسبة حديث لم ينل نصيبه من التفكير والتأمل ، ربما لأن الموجة الرائجة جعلت الكثيرين يتداولونه وكأنه واضح ومفهوم ، في حين أنه لفظ غامض ويحتاج إلى 2 الكثير من المسائلة . إن معنى الدولة المدنية لا يعني سوى أنها ليست عسكرية ولا يعني أنها ليست دولة دينية ، أي أن التوافق على مدنية الدولة لا يُجنبها السقوط في محنة الدكتاتورية الدينية ، لأن الدولة الدينية دولة مدنية ولا لبس في ذلك . في حين إذا قيل دولة علمانية يكون المدلول واضحا ولا مجال للتأويل ، لأن أهم ركن في العلمانية هو فصل الدين عن الدولة . لكن لماذا يخجل الأستاذ الساسي من النطق بالعلمانية والجهور بها ؟ ، أفي ذلك مداهنة للرأي العام أم تنازلا عن مطلب النظام العلماني الذي ينادي به ويؤمن به كل اليساريين ؟ مهما كانت الأحوال فإن هذا الأمر لا يخص صاحب هذه المقالة وحده بل يشاركه في ذلك الكثير من المناضلين والمفكرين اليساريين الذين ضعفوا نتيجة ضغط الأصولية بشقيها المخزنية والشعبية فتنازلوا عن العديد من شعاراتهم وقناعاتهم . لكن ، يظل مشروع العلمانية كنظام للدولة المأمولة هو مشروع اليسار المغربي ولا داعي إلى الإختباء وراء مصطلحات بديلة ، لأنه لا ديمقراطية بدون علمانية . لكن ، التوافق أيضا على الدولة العلمانية لا يجنبها مخاطر الوقوع بين مخالب الدكتاتورية العسكرية ، فكثير من الأنظمة العسكرية أنظمة علمانية ، أو على الأصح تدعي العلمانية ، حيث تلجأ الى محاربة الدين عن طريق نشر جميع مظاهر الفساد وأنواعه في المجتمع وتسليط الرقابة على الممارسين للشعائر العقائدية وعلى أماكن العبادات ، فتغلف ديكتاتوريتها بالمشاهد البراقة والخادعة تارة باسم الحريات الفردية وتارة أخرى باسم حرية المرأة التي بالمناسبة أضحت بضاعة رائجة وسهلة الاستهلاك ، هذا النوع من الأنظمة هو الذي شوه مضامين ومقاصد مفهوم العلمانية وجعل العديدين يتجنبون ذكرها والحديث عنها ، غير أن هذا لا يمثل مبررا معقولا حتى يؤدي الى الاختباء وراء مصطلحات لا تعبر عن المعاني الحقيقية التي يدل عليها مفهوم العلمانية . هذه الصورة التي خلقتها بعض الأنظمة الاستبدادية منحت المصداقية للخطاب الأصولي لكي ينال من قلوب وعقول الرأي العام ويقنع الناس بخطورة العلمانية باعتبارها دعوة إلى الإلحاد والإفطار في رمضان والفسوق وشرب الخمر وما الى غير ذلك من المبيقات . وعلى الرغم من أن شيوخ ومفكري الأصولية يعلمون جيدا ما هي العلمانية فإنهم وظفوا هذه المنحة المهداة من طرف الإستبداد السياسي واستغلوها لمحاربة العلمانيين واليساريين على السواء ، مما جعلهم بدورهم يقومون بهذه الخدمة لصالح المستبد ذاته ونيابة عنه . العلمانية ليست ضد الدين ولا تناهضه . العلمانية تفيد أن الدين وجد للناس ومن أجلهم ، وجد للبشر من أجل تدبير أمورهم الروحانية ولم يوجد للدولة وللإدارة وللمصانع ولمؤسسات البحث العلمي وللسدود وللطرق وللقناطر وللموانئ وللمطارات ...إلخ . العلمانية تفيد أن الدين إذا دخل الدولة فسد وانحرف عن غاياته النبيلة وفسدت الدولة معه . العلمانية تحمل الدولة مسؤولية حماية الدين والقيمين عليه ومؤسساته ودور العبادة . العلمانية تؤكد على حق الناس أفرادا وجماعات في ممارسة طقوسهم الدينية في مأمن عن تدخل أي سلطة كيفما كان نوعها . العلمانية هي أكبر مدافع عن الدين لذلك تدعو الى فصله عن السياسة والدولة حتى لا يتلوث وحتى يحافظ على رقيه وسموه وقيمته الاعتبارية العالية ، والذين يسعون الى إرساء الدولة الدينية يعملون على إحياء عبادة الأصنام والرجوع بالإنسان الى الوثنية ، لأن الدولة آنئذ تتحول الى صنم يتوجب تأليهه والخضوع له . اذا كانت "المدنية" لا تُؤَمِّنُ التوافق الذي يسعى إليه أستاذنا وكذلك " العلمانية " فما السبيل الى توافق لهذا التوافق ؟؟. التوافق المطلوب هو في تحديد المصطلح أولا من أجل استبعاد أي لبس ممكن حتى يكون الحوار المنشود بين اليساريين والأصوليين هادفا وصريحا ، وحتى تكون التسوية السياسية التي تجسد سقفها شعارات معركة التحول إلى الديمقراطية معبرة عن المطالب بلغة لا تترك هامشا للسؤال . المطلوب هو أن تكون الدولة "مدنية علمانية" تحت مظلة "الملكية البرلمانية" ولا داعي لذكر الحريات الفردية لأن العلمانية تتضمنها ومستفيضة في التعبير عنها ؛ والمطلوب أيضا أن يتحلى اليساريون بالقدرة اللازمة للدفاع عن العلمانية كنظام يتسع للجميع ولا يقصي أحدا ، وخصوصا ما تعلق بالمسألة الدينية ، فالعلمانية في مضمونها هي الإعتراف بحقوق الناس في الإختلاف في الإعتقاد الذي هو ركن أساسي في أي بناء ديمقراطي . قبل سنوات ، أطلق المرحوم الأستاذ عبد السلام ياسين نداء إلى اليساريين "الفضلاء" لتشييد فضاء للتواصل والإنصات المتبادل ، فلم يلق صدى لا عند الجماعة ولا عند اليساريين ، على الأقل عند الأغلبية من جمهورهما . أسأل الآن ، أين كان الأستاذ الساسي وقت هذا النداء ، ولماذا لم يتفاعل معه ؟؟ . أسأله كمفكر ، ككاتب وكقيادي يساري بارز ، والأستاذ يعرف جيدا مسؤوليات هذه المكانة . كما أود أن أذكر الأستاذ الساسي أيضا بموقفه من فرع الحزب الإشتراكي الموحد بشفشاون لما نسق هذا الأخير مع حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات البلدية الأخيرة لإسقاط أخطبوط الفساد الذي كان يمثله حزب الإستقلال حيث تمكنا من ذلك وشكلا المكتب المسير إلى جانب الإتحاد الإشتراكي ؛ أقام 3 الأستاذ الساسي الدنيا وأقعدها واعتبر ما فعله مناضلو هذا الفرع انتهاكا للخطوط الحمراء التي ترسمها نظرية التحالفات المعتمدة من طرف الحزب الإشتراكي الموحد ، ولم يكلف نفسه عناء الإنتقال إلى شفشاون لمحاورة أطر الحزب في الفرع المحلي . أذكره بهذا لتقييم جدية الدعوة التي قدمها في هذه المقالة التي أناقشه فيها ليس إلا . إنني من الذين يؤمنون بعمق بوجوب قيام تقارب يساري أصولي ؛ فالأصولية واليسارية هما التعبيران الأصيلان والوحيدان للمجتمع المغربي ، وباقي التعبيرات الأخرى تحوم حولهما اقترابا وابتعادا حسب الظروف والتقلبات السياسية ، بل إنني من الذين ينادون بوجوب قيام تنسيق سياسي بين الحزب الإشتراكي الموحد وجماعة العدل والإحسان في أقرب الآجال عوض الركض وراء تحالفات فارغة تستنزف مجهودات الحزب بلا غنائم سياسية ؛ لكن هل يَسْهُلُ إنجاز هذه الخطوة دون مراجعة مسألة التحالفات أو نظرية التحالفات التي يتبناها الحزب الإشتراكي الموحد ؟؟ نفس السؤال ينطبق على ما ذهب إليه الأستاذ محمد الساسي . عقود من العداء كون حاجزا نفسيا عنيدا بين المعسكرين يصعب تجاوزه ، لكنه ليس مستحيلا لأنه ينبغي تجاوزه ؛ هذه المهمة كان من المفروض أن تكون قد أنجزت فيما مضى حتى لا تنضاف إلى الأعباء المُعرقلة لتطور المجتمع المغربي ، كما أنه مفروض الإنتقال من حالة العداء إلى حالة الخصومة ليكون الصراع منتجا ومثمرا . أرجو أن يتحملني الأستاذ الساسي ، وأن يتسع صدره لمثل هذه الحوارات ، فالغرض في آخر الأمر هو تعميم النقاش وتحرير اللسان من القيود التي تعتقله ؛ وإذا لم نتكلم الآن فإننا قد لا نتكلم على الإطلاق ، فما نعيشه في المغرب حاليا ليس سوى سحابة عابرة من الحريات قد تأتي رياح عابرة أيضا فتعصف بكل شيء ، لأن لا أحد يثق في الوضع السياسي الحالي المبني على قاعدة هشة
الثلاثاء، 15 يوليو 2014
- تعليقات بلوجر
- تعليقات الفيس بوك
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 commentaires:
إرسال تعليق