عندما ينفجر صراع بين ضدين
متناحرين ، فان الطرف الذي يمثل الجديد في هذا الصراع ، ينتهي دائما
الى الانتصار ، على الطرف الذي يمثل القديم .
اما اذا امتنع الجديد ، عن هزم القديم ، فان القديم سيهزم حتما الجديد .
تلك هي عادة امور الحياة : اما ان انتصر ، واما ان اترك غريمي ينتصر .
مع ذلك هناك الاستثناء ، والاستثناء يحصل ، لما يضطر الطرفان المتصارعان ، الى البحث عن تسوية ، تمكنهما من التعايش .
هذه التسوية ، هي ما درجنا على تسميته بالتوافق ، او الحلول الوسطى ، او انصاف الحلول ، او المساومة .
لكن
اذا نحن تاملنا صيغة التوافق بشيء من العمق ، فاننا سنجدها صيغة هشة
ومهزوزة لانها تكون دائما خاضعة للتاويل ، اما لصالح هذا الطرف واما
لصالح الطرف الاخر النقيض .. مما يقود الى اعادة انشطارها بين
الطرفين المتناقضين ، وبالتالي العودة الى نقطة البدء الاصلية .
معنى هذا .. ان ذلك الاستثناء ، ليس سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة .
ومعناه ايضا ، ان موقع الوسط هو موقع مستحيل .
ان كل ظواهر الصراع السياسي والفكري تؤكد ذلك ، لناخذ الامثلة المنتقاة التالية :
المثال
الاول : في الصراع بين العالم الغربي الامبريالي بقيادة امريكا ،
والعالم الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي ، حاول العالم
الثالث ان يحتل موقع الوسط بين الاثنين ، عن طريق التوفيق بين طابع
الراسمال ، وطابع العمل .
لكن على صعيد الواقع العيني ، انشطر العالم الثالث الى شطرين ، شطر انحاز لصف الغرب ، وشطر انحاز لصف الشرق .
المثال
الثاني : في الصراع الفلسفي ، ابان العهد الاغريقي القديم ، بين التيار
المثالي ( الذي كان يمثله افلاطون وسقراط ) ، والتيار المادي ( الذي كان
يمثله ديموقريط ، وابيقور ) ، حاول ارسطو ان يؤسس فلسفة الطريق الثالث.
الفلسفة الوسطى التي توفق بين الاتجاهين المتناقضين ، ( أي ماكان يسميه ارسطو بالتوافق« بين المادة والصورة ») .
لكن
على صعيد الواقع المحسوس انشطرت فلسفة ارسطو الوسطية ، الى شطرين –
تاويليين متناقضين : تاويل مثالي ( للقسيس الفيلسوف طوماس الاكويني ) ،
وتاويل مادي ( للفيلسوف العربي ابن رشد ) .
المثال الثالث : في
الصراع بين الاستقلال والاستعمار ، الذي عاشه المغرب في الاربعينات
والخمسينات ، انتهت المواجهة بين الطرفين المتناقضين الى التسوية
التوافقية التالية :
حصول المغرب على الاستقلال السياسي ، مقابل قبوله بالتبعية على الصعيد الاقتصادي .
لكن ذلك الاستقلال السياسي نفسه ، قد تبخر ، بحكم انحياز المغرب الى الغرب ، ضمن الصراع بين العظميين وقتئذ .
ويمكن استعراض العشرات من الامثلة المتشابهة ، التي تتقاطع كلها في نقطة واحدة : استحالة موقع الوسطي عمليا.
اكثر
من ذلك يمكن القول ، بان في صلب التوافق ، يوجد اللاتوافق :
فالديمقراطية الغربية ، مثلا ، قامت تاريخيا على التوافق بين الراسمال
والعمل .
لكن ماذا نجد عمليا ؟ .
نجد الاحزاب الاشتراكية عندما
تستولي على السلطة بواسطة الانتخابات الديمقراطية تنسق صيغة التوافق ،
من خلال سياسة التاميمات ، التي تحد ما امكن من الراسمال الاحتكاري
الخاص .
كما نجد بالمقابل ، الاحزاب البورحوازية ، التي تستولي على
الحكم ، القيام بنفس النسف لصيغة التوافق ، في الاتجاه المعاكس ، حينما
تلجا الى الحد ما امكن من قطاع الدولة ، لصالح الراسمال الخاص .
ما سبق يجعلنا نخلص الى الخلاصة التالية ، بالنسبة للوضع المغربي الحالي :
ان
المغرب يحركه اليوم تناقض جوهري ، على الصعيد السياسي : هناك ، من جهة
نزوع الشعب الى اقامة نظام الملكية البرلمانية الديمقراطية .
لكن من جهة اخرى هناك نزوع الحاكمين الى الحفاظ على نظام الحكم القائم .
وفي اعتقاد الفقيد عبد السلام المؤذن ، ان ميزان القوى بين الطرفين المتصارعين يتميز بالتالي :
من جهة ، لقد فقد الحاكمون جزءا من قوتهم ، مما يجعل من المستحيل عليهم ، الاستمرار في الحكم بنفس الطريقة السابقة ...
ومن جهة اخرى لم يملك المحكومون بعد القوة الكافية التي تمكنهم من التحقيق الفوري لنظام الملكية البرلمانية .
هذا الوضع يسمح بتوافق بين الاثنين ، لكن هذا التوافق قد لاينهي الصراع ، بل يعمل فقط على تفجيره على اسس اخرى .
0 commentaires:
إرسال تعليق